أرخت الأزمة الاقتصادية المستفحلة بثقلها على كافة الإدارات الرسميّة، وخصوصًا الأسلاك العسكرية والأمنية، وأفرزت حالاً من الشلّل والركود على الصعيدين الإداري والتوظيفيّ. فهذه المؤسسات نزفت مئات بل الآلاف من كوادرها المختنقة والمتعبة معيشيًا، كما شهدت الأسلاك العسكرية حالات فرار بالآلاف. ومقابل كل حالة فرار كانت تلك المؤسسات -وتحديدًا قوى الأمن الداخلي- تخسر موردًا بشريًا، لا تستطيع الاستعاضة عنه بآخر (بسبب إغلاقها باب التطوع منذ سنوات). وبين الخوف من التبعات القانونية للفرار والضغوط المعيشية، انتشرت جدلية
إنسانية-قانونية خلال الآونة الأخيرة. فمن جهة أولى، على المؤسسة النظر بالحالات الفارة وإنزال الأحكام المنصوصة في قانون المؤسسة مرعية الإجراء، ومن جهة ثانية فإن هذه الحالات دُفعت قسرًا لمخالفة القانون، لتأمين قوت يومها، بسبب الوضع الاقتصادي المتردي.
وعليه، وفي سياق وقف الأزمة الحاصلة، وإرجاع ما تبقى للمؤسسة من موارد بشرية، صدر عن العميد قائد الدرك، ربيع مجاعص، برقية في تاريخ 25 أيلول 2023، جاء فيها: “يطلب فيها من الضباط آمري القطعات التواصل هاتفيًا مع عناصر قطعاتهم الفارين بهدف حثهم على الإلتحاق بمراكزهم مجددًا، وإبلاغهم حرص القيادة على مراعاة أوضاعهم المسلكية بما يضمن لهم إعادة استئناف الخدمة كالمعتاد، وينعكس ثباتًا على إنتاجية القطعات”.
وكان لافتًا أن البرقية التي أثارت جدلًا واسعًا ألغيت اليوم الأربعاء، 27 أيلول، من قبل قائد الدرك نفسه. وجرى التداول -وفقًا لبعض المصادر المتابعة- بأن مضمون البرقية يخرج عن صلاحيات العميد مجاعص.
ما يفهم من مضمون البرقية أن قوى الأمن الداخلي، وتحديدًا وحدة الدرك الإقليمي، التمست ما تحدثنا عنه مؤخرًا من شلل وتقصير عام مرتبط بحالات الفرار المتكررة، وتسعى لإعادة العناصر “الفارة” من الخدمة.
وكان واضحًا بأن البرقية قد أحدثت بلبلة واسعة، فطرحت مجموعة من التساؤلات، والتي كان أبرزها: من يضمن أن هؤلاء الفارين وبحال عودتهم إلى الخدمة الفعلية هم بمأمن عن أي عقوبة محتملة، كما ينص قانون المديرية؟ هل ستلغى العقوبات أم سيتم التساهل معهم؟ وهل هذه البرقية من شأنها فعلًا إعادة هؤلاء إلى كنف المديرية، بالرغم من بقاء الظروف المعيشية والرواتب منخفضة بهذا الحال؟ ولِمَ تطلب المديرية من هؤلاء العودة، عوضًا عن فتح باب التطوع مرة جديدة أمام منتسبين شباب يشكلون موردًا بشريا جديدًا وفعالًا للمؤسسة؟ أما الأهم، فما هي العقوبات التي ستطالهم في حال عودتهم؟
كل هذه الاستفسارات غيرها طرحتها “المدن” أمام مصادر أمنية رفيعة المستوى، التي بدورها أكدت لـ”المدن” بإن البرقية ألغيت اليوم، وأن مضمونها ليس جديدًا، فمديرية قوى الأمن الداخلي تسعى بشكل مستمر للتساهل مع الفارين من أجل تأمين عودتهم، ومن أجل الحفاظ على مؤسسة قوى الأمن الداخلي من الانهيار.
إجراءات مخففة
واعتبرت المصادر الأمنية الرفيعة بأنه قد يكون صعبًا إلغاء العقوبات المسلكية “المخففة” بشكل نهائي، لأنها من اختصاص القضاء المختص، أي المحكمة العسكرية.
أما المؤكد، ووفقًا لكلام المصادر الأمنية البارزة، فإن الأحكام بحق جميع الفارين ستكون مخففة مقارنة عن السابق، وأنها ستكون مسلكية وسيتم مراعاة أوضاعهم بشكل كبير. ورجحت إمكانية توقيف البعض لمدة زمنية بسيطة تتراوح بين 7 و 8 أيام، ولكن العقوبات قد تختلف بين عنصر وآخر. سيما أن المدير العام لقوى الأمن الداخلي، اللواء عماد عثمان، يسعى باستمرار لإعادة كل العناصر التي فقدتها المؤسسة خلال الأزمة الممتدة حتى حينه.
وأشار مصدر أمني رفيع المستوى آخر، بإن هذه البرقية كانت حصرًا بوحدة الدرك وباقي الوحدات الأمنية ليست معنية بها، إلا إذا تم تعميمها كمذكرة صادرة عن مدير عام القوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان.
في السياق نفسه، وفي حالة الرقيب (ح.م) الذي ترك الخدمة وهاجر خارج الأراضي اللبنانية، وتقدم بطلب التسريح أو فسخ عقد التطوع بعد تلقيه عرض عمل خارج لبنان، فقد رفضت مديرية قوى الأمن الداخلي الطلب وحوّلته للمحكمة العسكرية. ويقول في حديثه لـ”المدن” بأنه ومجموعة من العناصر التي فرّت من قوى الأمن الداخلي لن يفكروا بتاتًا بالعودة إلى لبنان أو بالانضمام مجددًا إلى قوى الأمن الداخلي، فهم بحاجة إلى ضمانات مؤكدة لناحية عدم توقيفهم، وتحسين رواتبهم بشكل لائق، إلى جانب تغطية طبابتهم وكامل احتياجاتهم، كما يؤكد بأن هذه الضمانات ليست متوفرة حاليًا وتبدو الأمور ضبابية، لذلك عودته قد تكون مستحيلة.
يبقى التعويل على أن تعود هذه المؤسسة إلى سابق عهدها، نشطة ومؤتمنة على أمن المواطنين وأرواحهم ومواطنيتهم، في وجه كل هذه الفوضى واللاقانون المتفشيين في البلد، وأن يتم تحسين رواتب العناصر بما يليق بهم، خصوصًا أنها من المؤسسات التي حافظت على جزء من مهنيتها المعهودة في خضم الفساد المستفحل.