أخبار محلية

المسيحيون في بعلبك: حجر أساس أم حضور مهدّد بالزوال؟

بعلبك ليست مجرّد مدينة، بل هي كيان حضاري قائم على التعددية، نسيج حيّ تشكّل عبر التاريخ من طبقات متراكمة من الثقافات والطوائف والانتماءات. في كل مرحلة، كانت تتعرّض لمحاولات قولبتها ضمن مشروع سياسيّ معيّن، لكنّها كانت دوماً ترفض التحوّل إلى كيان أحاديّ، محتفظةً بروحها التعددية التي ميّزتها عن غيرها من المدن. إلا أن هذا النموذج يواجه اليوم خطر الانهيار مع التآكل التدريجي للوجود المسيحي، ليس كنتيجة لتحوّلات طبيعية، بل كنتيجة لعملية مدروسة هدفت إلى رسم ملامح المدينة وفق توازنات تفرضها موازين القوى المسيطرة.

 

المسألة ليست مجرّد تغيّر ديموغرافي، بل هي انعكاس لصراع أعمق على هوية المدينة، وصراع كهذا لا يحدث في فراغ. فحينما تُدفع طائفة بأكملها إلى الهجرة أو التهميش، لا يكون ذلك وليد الصدفة، بل جزءاً من ديناميكية تشكيل السلطة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ليس سرّاً أن الدولة اللبنانية لم تكن يوماً طرفاً فاعلًا في حماية التعددية في بعلبك، بل تركت الأمور لتتطوّر وفق منطق القوة، حيث باتت المدينة محكومة بمنظومة لا ترى في التنوع ثراءً، بل عائقًا أمام مشاريعها.

 

 

غياب المسيحيين ليس مجرد فقدان لمكون اجتماعي، بل هو فقدان لنمط حياة كامل كان يضمن نوعاً من التوازن داخل المدينة. لطالما كان المسيحيون جزءاً أساسياً من الدينامية الاقتصادية، سواء في الحرف أو التجارة أو المهن الحرة، وحينما يُقصى هذا الدور، لا يختفي تأثيره فقط، بل تُفتح الأبواب أمام سيطرة اقتصادية من لون واحد، ترتكز على شبكات الولاء بدلاً من الكفاءة. هذه السيطرة ليست عشوائية، بل هي جزء من مشروع مدروس هدف إلى خلق بيئة غير مرحبة بأي قوة مستقلة، سواء كانت طائفة أو تيارًا فكريًا أو حتى أفرادًا يرفضون الاندماج في المنظومة المفروضة.

 

 

في ظل هذا المشهد، يصبح الأمن سلاحاً سياسياً يُستخدم لإعادة رسم الخريطة الاجتماعية، حيث تتحول التهديدات الأمنية والضغوط الاقتصادية إلى أدوات غير معلنة لدفع من تبقى من المسيحيين إلى مغادرة المدينة. ليس الأمر مجرد غياب للحماية، بل هو خلق لبيئة طاردة، تُجبر الناس على الاختيار بين الخضوع الكامل أو الرحيل. في هذا السياق، لا يمكن فصل تآكل الوجود المسيحي عن التحولات الإقليمية، حيث باتت القوى المتحكمة في المدينة ترى في التنوع تهديدًا لمشروعها، وتفضل إحلال نموذج أكثر تجانسًا، يتيح لها إحكام قبضتها دون معارضة.

 

 

هذا التغيير لا يمس المسيحيين وحدهم، بل يضرب جوهر بعلبك نفسها. مدينة فقدت تنوعها، تفقد تدريجياً قدرتها على التفاعل مع محيطها، وتتحول من مركز إشعاع حضاري إلى بقعة مغلقة تدور في فلك خطاب أحادي. فحينما تختفي الطوائف الأخرى، لا يعني ذلك تحقيق الاستقرار، بل يعني خلق فراغ سرعان ما يتحول إلى صراع داخلي بين القوى التي كانت متحالفة ظاهريًا. التاريخ اللبناني مليء بالشواهد على أن اختلال التوازن داخل أي مدينة لا يؤدي إلى تثبيت السلطة، بل إلى اهتزازها لاحقاً بفعل تضارب المصالح داخل المنظومة نفسها.

 

 

لكن الأخطر هو أن هذا التحول قد يكون نموذجاً لما يمكن أن يحدث على نطاق أوسع في لبنان. فبعلبك ليست حالة معزولة، بل جزء من واقع المشهد اللبناني ، حيث تتراجع سلطة الدولة لصالح قوى الأمر الواقع التي تعيد تعريف معالم المدن والمناطق بما يتناسب مع مشاريعها.

لكن رغم كل شيء، لا تزال هناك فرصة لقلب المعادلة. التعددية في بعلبك لم تكن يوماً هبة من أحد، بل كانت نتيجة تفاعل طبيعي بين المكونات المختلفة، ولا يمكن القضاء عليها بالكامل طالما بقي هناك من يرفض الرضوخ لمنطق الإقصاء. الحل لا يكون فقط عبر استعادة الحضور المسيحي، بل عبر إعادة الاعتبار لفكرة المدينة التعددية، وإعادة ترسيخها كمساحة مفتوحة للجميع، بعيدًا عن منطق الأحادية الذي يحاول فرض نفسه. بعلبك التي قاومت كل محاولات الاختزال عبر التاريخ، قادرة على استعادة توازنها، لكن ذلك يتطلب كسر المعادلة الحالية، وفرض واقع جديد يعيد تعريف هوية المدينة وفق قيم الانفتاح، لا وفق معادلات القوة.

ديما حسين صلح- “نداء الوطن”

انضم الى freedom news عبر الواتساب على هذا الرابط👇

https://chat.whatsapp.com/DspnLGI6KMW6UYahSgxhUK

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى