خدمات الخبر السريع تضجّ في الآونة الأخيرة بأخبار من هذا القبيل: مقتل سائق درّاجة نارية على متنها خمسة سوريّين بعد اصطدامها بسيارة لبنانيّة؛ حادث مروّع بين سيارة و«توك توك» يقوده سوري بلا أوراق ثبوتية؛ شاحنة سوريّة زائدة الحمولة تتسبّب في مقتل ثلاثة طلاب من جامعة البلمند والسائق يلوذ بالفرار. وشربل جرجس، ابن الأشهر الخمسة، الذي قضى وجدّته الأسبوع الماضي نتيجة تهوُّر أحد السائقين السوريّين غير الشرعيين، قد لا يكون آخر من تتناوله تلك الأخبار.
مشهد «غريب» من إحدى المناطق المتنية قبل أيام. شجارٌ بين سيّدة لبنانيّة وعائلة سوريّة على خلفية انزلاق سيارة لبنانيّة اللوحة، كان قد ركنها السائق السوري خلْف سيارة السيّدة لترتطم بها محدثة أضراراً مادية. إلى هنا، الخبر قد يبدو طبيعياً. ومحاولة السائق الهروب بالسيارة (بعدما تبيّن عدم امتلاكه أوراقاً ثبوتية أو وكالة بها) طبيعي، ربّما، أيضاً. أما أن يتزامن طلب السيّدة بالتعويض عن الضرر الحاصل، كون العائلة السوريّة تتقاضى الدولار «الفريش» من الأمم المتحدة، مع عبارات نابية من زوجة السائق، فتلك الغَرابة. «إنتو مش حارق قلبكن إلّا الأمم المتحدة… بس غصباً عنكن قاعدين». صدام مروري يفجّر مكنونات وهواجس.
المشاهد اليومية تلك باتت مألوفة مع استفحال أزمة النزوح السوري. سيارات سوريّة دخلت، ولا تزال، بِطُرق غير شرعية؛ نازحون يقودون سيارات لبنانيّة بلا رخص سوق أو أوراق ثبوتية؛ درّاجات نارية تنتشر كالفطريات في كافة المناطق اللبنانيّة دون أيّ مستندات رسمية. ويأتي في مقدّمها درّاجات الديليفري التي يتمرّد سائقوها (وجزء غير قليل منهم سوريّ) على شتّى قواعد السير وشروط السلامة العامة. يكفي المرء أن يتجوّل في شوارع بيروت، لتصبح أمنيته الوحيدة الخروج منها سالماً. فبعدما كانت النساء يُعيَّرنَ بسوء القيادة (ولا نؤيّد ذلك بالضرورة)، بات السائقون السوريّون المتهوّرون يخطفون تلك الأضواء. من يضمن شروط السلامة تلك؟
القانون واضح والخرق فاضح
فلنَغُص في أحكام قانون السير اللبناني بهذا الخصوص. بالنسبة إلى السيارات السياحية، واستناداً لمعاهدة «الأخوّة والتعاون والتنسيق» بين لبنان وسوريا، يمكن لأي سوري أن يدخل لبنان بسيارته الشخصية شرْط حيازة رخصة سوق سوريّة أو دوليّة، على أن يكون دخوله شرعياً وأن يملك إقامة رسمية في لبنان. لكن بالمقابل، لا يحقّ لأي سوري قيادة سيارة لبنانيّة على الأراضي اللبنانيّة إلّا بموجب وكالة من مالك السيارة، على أن تُسجَّل الوكالة في مصلحة تسجيل السيارات والآليات. والأحكام نفسها تنطبق على الدرّاجات النارية. بما يخصّ رخص السوق العمومية، لوحظ مؤخّراً ارتفاع عدد سائقي سيارات الأجرة والباصات والشاحنات السوريّين. فهل بحوزة هؤلاء ما يخوّلهم القيادة من مستندات رسمية؟ بحسب نظام السير اللبناني، يُمنع إعطاء رخصة سوق عمومية لغير اللبنانيّين، وعلى السائق السوري تحصيل إجازة مزاولة المهنة من وزارة النقل والأشغال العامة ليكون عمله قانونياً. كما لا يحق لأي سوري امتلاك شاحنة أو باصٍ أو سيارة أجرة لبنانيّة ولو بموجب وكالة. فأين نحن من ذلك والهوّة بين نص القانون وتطبيقه عميقة؟ نسأل لا سيّما أن من السهل على أي مرتكب سوري الفرار من لبنان، محوّلاً بذلك الغرامات والعقوبات إلى حبر على ورق.
وهناك معضلة أخرى تتعلّق بشركات التأمين. ففي وقت تؤمّن البطاقة البرتقالية التغطية المادية والجسدية للسيارات السوريّة داخل لبنان، تتمحور الكارثة الحقيقية حول السيارات اللبنانيّة التي يقودها سوريّون بلا أوراق ثبوتية، رخص سوق أو وكالات. وإذ تتذرّع شركات التأمين بهذه المخالفات لعدم تطبيق بنود بوليصة التأمين، أكثر ما يلحق الضرر بالمواطن اللبناني. فالأخير يتعذّر عليه الحصول على أي تعويض مالي لقاء الأضرار التي يتسبب له فيها السائق السوري المخالف، مادية كانت أم جسدية.
من المسؤول الأوّل؟
منسّق أنشطة اليازا في بيروت، سمير سنّو، اعتبر في حديث لـ»نداء الوطن» أن نسبة الصدامات المرورية وضحايا السير ترتبط بشكل مباشر بعدد مستخدِمي الطرقات أياً كانت جنسيّتهم، خصوصاً أن كافة دول العالم، باستثناء الولايات المتحدة وكندا، تعتمد اتفاقية فيينا بشأن حركة المرور على الطرق، والتي توحّد معايير السلامة المرورية وإشارات السير وغيرها. «رغم ذلك، هناك العديد من الممارسات المختلفة لدى بعض السائقين السوريّين المتهوّري القيادة. لكنني لا أحمّلهم مسؤولية ذلك. فلو نظرنا بموضوعية، لوجدنا أن هؤلاء أنفسهم يلتزمون بقوانين السير في بلدهم ويتقيّدون بمعايير السلامة المرورية، ما يؤكّد أن المشكلة تكمن في هيبة الدولة اللبنانية وعدم قدرتها على تطبيق القانون»، كما يقول سنّو. كما أشار إلى أن تردّي الوضع الاقتصادي فرض على النازحين السوريّين إيجاد شتّى الوسائل لتخفيف أعبائهم اليومية. لذا نراهم يتنقّلون رباعاً وخماساً على متن دراجة نارية واحدة. وهنا يأتي دور القانون وأهمية تطبيقه لحماية هؤلاء من أنفسهم أولاً، كما حماية الآخرين ثانياً.
عن ظاهرة الـ«توك توك»، لفت سنّو إلى أن وجودها على الطرقات اللبنانيّة ليس مخالفاً للقانون لا سيّما أنها تُسجَّل في هيئة إدارة السير. لكنّ المخالفة تكمن في طريقة استخدامها وعدم الالتزام بعدد الركاب والوزن المسموح به، ما يهدّد السلامة العامة. فماذا عن درّاجات الديليفري؟ «لقد ارتفع عدد المخالفات خصوصاً تلك المرتبطة بالوقاية كارتداء الخوَذ، والتجاوز من جهة اليمين كما استخدام الأرصفة وتخطّي الإشارات الحمراء. لكنني أؤكّد أن هذه الممارسات الفاضحة تعود لعدم تطبيق القانون». سنّو شدّد ختاماً على رفض اليازا القاطع هذه السلوكيات، رغم تفهّمها حاجة النازحين السوريّين للتوفير. «لا يمكننا الاتّكال على الحسّ الوطني لدى الفرد والتزامه بتطبيق القانون، كما لا يمكن تحميل المرتكب مسؤولية كل ما يحصل. لكن مع ذلك، من واجبنا الحفاظ على السلامة المروريّة والأرواح، أيّاً كانت الجنسية. من هنا نطالب الدولة بالتشدّد لضبط الفلتان لحدّ الصدامات المتكرّرة».
لإلزامية التأمين ورفْع قيمته
من الناحية القانونية، أسف الخبير الدستوري، المحامي الدكتور عادل يمّين، في اتصال مع «نداء الوطن» لكون المشكلة أعمق من ظاهرها، إذ تعود أساساً للدخول غير الشرعي للنازحين السوريّين – لذا، ثمة ضرورة للتشدّد أكثر من قِبَل الدولة. وبينما رأى أن مسؤولية التفلّت السوري في القيادة تتوزّع على أطراف عدّة – أبرزها الأجهزة الأمنية التي يجب أن تقوم بدورها الرقابي لمنع المخالفات الحاصلة – طالب بتعديل بعض القوانين صوناً للسلامة المرورية.
وتساءل يمّين إن كان هناك من يتحقّق من وجود بوالص تأمين تضمن حقّ من يقع ضحية القيادة العشوائية والمخالِفة من قِبَل بعض السائقين السوريّين، وإن كان هناك من يعوّض أيضاً عن الأضرار المادية والجسدية الناتجة. «من هنا أطالب برفع قيمة التأمين للأجانب، بمن فيهم السوريّون، ثلاثة أو أربعة أضعاف ما هي عليه وجعله إلزامياً. ففي حين يمكن حجز أملاك اللبناني أو راتبه إن تخلّف عن تحمّل مسؤوليته، لا يملك السوري بالعادة شيئاً في لبنان ليُصار إلى حجزه».
أبعد من اقتحام مروري
ما تشهده طرقاتنا يعكس حالة اجتماعية أكثر شمولاً يعيشها لبنان نتيجة النزوح السوري. فكيف تفسّر الدكتورة في علم الاجتماع، عايدة الخطيب، ما يجري؟ بشكل عام، كما تقول، فإن مسألة النزوح وجودية كيانية تقوم الأمم المتحدة بمعالجتها على مستوى رؤساء الدول والجمعيات ومن خلال مفاهيم حقوق الإنسان والقانون الدولي. أما الواقع في لبنان، فيختلف عن مضامين تلك التسميات. «يشكّل السوريّون حالياً حوالى 40% من سكان لبنان، ما يؤدي إلى شعورٍ بتملّك الطبيعة والأرض والمناطق. وهنا نتكلّم على تملّك فعلي، غير مدوَّن أو مسجَّل، ما يستحيل خطراً وجودياً – ديموغرافياً وتربوياً ومجتمعياً». ظاهرة الصدامات المرورية ربطتها الخطيب بأعداد هؤلاء الكبيرة ومحاولتهم جني مبالغ إضافية، إلى جانب ما توفّره لهم الأمم المتحدة، فتراهم يقتحمون كافة أنواع الأعمال وعلى كافة المستويات. «معظمهم عمال أميّون أو شبه أميّين (وهذا توصيف، لا انتقاص من قدْر أحد). ونتيجة هذا الاقتحام، بتنا نراهم في كل مكان، خصوصاً على الطرقات وبين السائقين يقودون الآليات الكبيرة وبأجور زهيدة ما يتناسب مع مصلحة أرباب العمل. ويرفع غياب الرقابة الجدّية احتمال وقوع حوادث مميتة والتسبّب في أضرار مادية. فهُم إذ يأمنون العقاب، تكون أسهل السُبل بالنسبة إليهم الفرار».
لكن ألا يجب على النازح، أي نازح، الالتزام بقوانين البلد المضيف؟ من المنظار المجتمعي العام، اعتبرت الخطيب أن السوريّين ضيوف – نازحون لا لاجئون – في لبنان وعليهم أن يعودوا إلى وطنهم. لكن، بسبب مواقف السياسيّين التي زرعت في أذهانهم (منذ العام 1992) فكرة الشعب الواحد والبيئة الواحدة، «هم لا يعتبرون أنفسهم نازحين وهذا مكمن الخطورة المجتمعية. إنهم ينظرون إلى لبنان على أنه وطنهم ومن حقّهم السيطرة عليه. وما محاولة كثيرين الحصول على الجنسية اللبنانية سوى دليل على ذلك». الحلّ، برأيها، يتطلّب قرارات سياسية تُطبَّق بحزم لا قرارات شعبوية، وأن تتوقف مهزلة حماية النازح من الهروب إلى أوروبا وفتح الحدود البرية على مصراعيها أمام الدخول غير الشرعي.
طبعاً، ليس معنى ذلك أن اللبنانيّين والأجانب من غير السوريّين لا يتسبّبون على الطرقات اللبنانية في كوارث مرورية على مدار السنة. لا بل نعود ونكرّر أن المجتمع اللبناني تحوّل في أحد الأيام إلى نموذج يُحتذى به تماماً بسبب تنوّعه وانفتاحه. لكن المشكلة ترتبط اليوم بتبدّل مفاهيم التربية والأخلاق وحسّ التعاطي مع الآخر واحترام القانون. أما جذرها، فغياب الرادع وتفشّي التفلّت الذي لم يزده الواقع السوري غير المنظَّم إلّا سوءاً. وما يحصل على الطرقات تجسيد مروري لارتكابات كثيرة تمرّ أمام أعيننا… أو خلف الأبواب المغلقة.